فصل: سنة خمس ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة خمس ومائة

فيها توفي كثيرعزة عبد الرحمن الخزاعي كان شيعياً غالياً يؤمن بالرجوع بالدنيا بعد الموت وهو أحد عشاق العرب المشهورين به صاحب عزة بنت جميل بن حفص من بني حاجب بن غفار وله معها حكايات نوادر وأمور مشهورة وأكثر شعره فيها وكان يدخل على عبدالملك بن مروان وينشده وكان كثير التعصب لآل طالب‏.‏

حكى ابن قتيبة في طبقات الشعراء أن كثير أدخل على عبد الملك فقال له عبد الملك‏:‏ بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحد أعشق منك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو نشدتني بحقك لأخبرتك قال‏:‏ نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني قال‏:‏ نعم بينا أنا أسير في بعض الصلوات أذا أنا برجل قد نصب حبالة فقلت‏:‏ ما أجلسك هاهنا قال‏:‏ اهلكني وأهلي الجوع فنصبت حبالتي هذه لأصيد لهم شيئاً ولنفسي ما يكفينا ويعصمنا يومنا هذا قلت‏:‏ ارأيت إن أقمت معك فأصبت صيداً اتجعل لي منه جزء قال‏:‏ نعم فبينا نحن كذلك إذ وقعت ظبية في الحبالة فخرجنا نبتدر فبدرني إليها فحلها وأطلقها فقلت له‏:‏ ما حملك على هذا قال دخلتني لها رأفة لشبها بليلى وأنشأ يقول‏:‏ يا شبه ليلى لا تراعي فإنني لك اليوم من وحشية لصديق أقول وقد أطلقتها من وثاقها فأنت لليلى ما حييت طليق ولما عزم عبد الملك على الخروج إلى محاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه وأن يستنيب غيره في حربه ولم تزل تلح عليه في المسألة وهو يمتنع من الإجابة فلما يئست أخذت في البكاء حتى بكى من كان حولها من جواريها وحشمها فقال عبد الملك‏:‏ قاتل الله ابن أبي جمعة يعني كثيراً كأنه رأى موقفنا هذا حين قال‏:‏ نهته فلما لم ترالنهي عاقه بكت فبكى من ماشجاها قطينها القطين‏:‏ الخدم والاتباع‏.‏

ثم عزم عليها أن تقصر فاقتصرت وخرج لقصده‏.‏قلت هكذا هو في الأصل المنقول عنه حصان بالصاد وحاء مكسورة وما أراه صحيحاً بل إن كان بالصاد فهو بفتح الحاء ويحسن أن يكون بالسين والحاء المكسورة جمع حسن ويقال إن عزة دخلت على أم البنين ابنة عبد العزيز وهي أخت عمر بن عبد العزيز تزوجها الوليد بن عبد الملك الأموي فقالت لها‏:‏ ارأيت قول كثير‏:‏

قضى كل ذي ديني ** فوفى غريمه وعزة ممطول

معنى غريمها ما كان ذلك الدين فقلت‏:‏ وعدته قبله فتحزجت منها فقالت أم البنين‏:‏ انجزيها وعلي إثمها‏.‏

قلت وذكر بعض العلماء في بعض التصانيف‏:‏ ان أم البنين المذكورة أعتقت كذا وكذا من رقبة عن هذه الكلمة التي صدرت منها وقولها فتحرجت منها بالحاء بعد الفاء من الحرج وله معان منها الضيق ومنها الاثم يقال فلان يتحرج من كذا أي تركه خوف الاثم‏.‏

وكان لكثير غلام عطار بالمدينة وربما باع نساء العرب بالنسأة فأعطى عزة وهو لا يعرفها شيئاً من العطر فمطلته أياماً وحضرت إلى حانوته في نسوة فطالبها فقالت له‏:‏ حباً وكرامة ما أقرب الوفاء وأسرعه فأنشد متمثلاً‏.‏

فقالت النسوة تدري من غريمك فقال‏:‏ لا والله فقلن‏:‏ هي والله عزة فقال‏:‏ اشهد الله إنها في حلى من مالي في قبلها ثم مضى إلى سيده فأخبره بذلك فقال‏:‏ وأنا أشهد الله أنك حر لوجهه ووهبه جميع ما في حانوت العطر وكان ذلك من عجائب الاتفاق وغرائب المحبين العشاق‏.‏

ولكثير في مطالها بالوعد شعر كثير فمن ذلك قوله‏:‏

أقول لها عزيز مطلت ديني ** وشر الغانيات ذوو المطال

قالت‏:‏ ويح غيرك كيف أقضي ** غريماً ما ذهبت له بمال

وذكر صاحب كتاب الأغاني أن كثيراً خرج من عند عبد الملك بن مروان وعليه مطرف فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست ناراً فى روثة فتافق كثير من وجهها فقالت‏:‏ من أنت قال‏:‏ كثير عزة‏.‏

فقالت‏:‏ الست القائل‏:‏

فما روضة زهراء طيبة الثرى ** تمج الندا حثحاثها وعرارها

باطيب من أراد أن عزة موهنا ** إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها

فقال كثير نعم‏.‏

فقالت‏:‏ لو وضع المندل الرطب على هذه الروثة لطيب ريحها هلا قلت كما قال امرؤ القيس‏.‏

ألم تراني كلما جئت زائراً ** وجدت بها طيباً وإن لم تطيب

فناولها المطرف وقال أشتري على هذا قالت وقوله نعم بعد قولها‏:‏ الست القائل فما روضة البيتين صوابه أن يقول بلى كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ألست بربكم قالوا بلى ‏"‏ - الأعراف‏:‏ 172 - ولو قالوا نعم لكان كفراً لأنه تقرير للنفي والحثحاث بالحاء المهملة والراء والثاء المثلثة مكررتين‏:‏ نبت طيب الرائحه والعرار بالعين المهملة والراء المكررة‏:‏ بهار البر وهو طيب أيضاً وإليه أشار الشاعر في قوله‏:‏

تمتع من شميم عرارنجد ** فما بعد العشية من عرار

وكان كثير ينسب إلى الحمق ويروى أنه دخل يوماً على يزيد بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمتين ما يعني الشماخ بقوله‏:‏

إذ الأرطا توسدا برديه ** خدود جواري بالرمل عين

فاقال يزيد‏:‏ ما يضرني أن لا أعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف واستحمقه وأمر بإخراجه ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان والد عمر يعود في مرضه وأهله يتمنون أن يضحك وهو يومئذ أمير مصر فلما وقف عليه قال‏:‏ لولا أن سرورك لا يتم بأن تسلم واسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إلي ولكني أسأل الله عز وجل لك العافية ولي في كنفك النعمة فضحك عبد العزيز وأنشد كثير‏:‏ لوكان يقبل فديتي لفديته بالمصطفى من طارقي وتلادي قلت يعني بقوله المصطفى إلى آخر البيت‏:‏ الذي يختاره من المال الحادث والقديم‏.‏

ومما يستجاد من شعر كثير‏:‏ قصيدته النائية التي يقول من جملتها‏:‏

وإني وتهيامي لعزة بعدما ** تسليت من وجد بها وتسلت

لك المرتجى ظل الغمامة كلما ** تبوأ منها للمقيل اضمحلت

وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة فاشتاق إليها فسافر للاجتماع بها فلقيها في الطريق وهي متوجهه إلى مصر وجرى بينهما كلام يطول شرحه ثم إنها تمت في سفرها إلى أن قدمت مصر وتأخر كثير بعدها مدة ثم عاد إلى مصر فوفاها والناس منصرفون عن جنازتها وكثير تصغير كثير وإنما صغر لأنه كان شديد القصر‏:‏ وفي السنة المذكورة توفي خليفتهم أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان وجده لأمه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان عاش أربعاً وثلاثين وولي أربع سنين وشهراً وكان أبيض جسيماً مدور الوجه قيل لما استخلف قال سيروا سيرة عمر بن عبد العزيز فأتوه بأربعين شيخاً شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب نعوذ بالله مما سيلقى الظالمون من شدة العذاب‏.‏

وحكى الحافظ ابن عساكر أنه لما حج يزيد بن عبد الملك طلب حالقاً فجاء فحلق رأسه فأمر له بألف درهم فتحير ودهش وقال هذه الألف أمضي بها إلى أمي فلانة أسرها بها فقال‏:‏ اعطوه ألفاً أخرى فقال‏:‏ امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك فقال‏:‏ اعطوه ألفين آخرين‏.‏

قلت هكذا هو في الأصل المنقول عنه ليزيد بن عبد الملك ولكن هذه القصة وقعت في أثناء ترجمة يزيد بن المهلب فلا أدري هو غلط من الكاتب أو أدخل حكاية من حكايات ابن عبد الملك مع حكايات ابن المهلب‏.‏

وفيها وقيل في التي قبلها وقيل في التي بعدها وقيل في سنة سبع وقيل في سنة خمس عشرة توفي عكرمة مولى ابن عباس أحد الأعلام المستضيء بها الأنام اصله من البربر من أهل المغرب وهب لابن عباس فاجتهد في تعليمه القرآن والسنين وسماه بأسماء العرب‏.‏حدث عن مولاه عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري والحسن بن علي وعائشة رضي الله عنهم وهو أحد فقهاء مكة من التابعين فيها وكان كثير النقل في الأقاليم خل اليمن وأصفهان وخراسان ومصر والمغرب وغيرها وكانت الأمراء تكرمه وتصله قال عكرمة طلبت العلم أربعين سنة‏.‏

وروي أن عباس قال له‏:‏ انطلق فأفت الناس وقيل لسعيد بن جبير‏:‏ هل تعلم أحداً أعلم منك قال‏:‏ عكرمة وروى عنه الزهري وعمرو بن دينار والشعبي غيرهم‏.‏

ولما مات مولاه باعه ولده علي بن عبدالله بن عباس بن خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار فقال له عكرمة‏:‏ بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار‏.‏

فاستقاله فأقاله ثم أعتقه‏.‏وروى الواقدي بسنده أنه مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد وصلى عليهما جميعاً فقال الناس‏:‏ مات أفقه الناس وأشعر الناس وكان موتهما بالمدينة الشريفة‏.‏

وفي السنة المذكورة على الصحيح توفي أبو رجاء العطاردي بالبصرة وله مائة وعشرون سنة أو أقل اسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ عن عمر رضي الله عنه وطائفة‏.‏

وفيها توفي الأخوان عبيدالله وعبدالله ابنا عبدالله بن عمر بن الخطاب وأبان بن عثمان الأموي المدني الفقيه روى عن أبيه‏.‏

سنة ست ومائة فيها استعمل هشام بن عبد الملك على العراق خالد بن عبدالله القسري فدخلها وقبض على متوليها عمر بن هبيرة الفزاري وسجنه فعمد غلمانه فنقبوا سرباً إلى السجن وآخرجوه منه وهرب إلى الشام فأجاره مسلمة بن عبد الملك ثم مات قريباً من ذلك‏.‏

وفيها توفي القاضي عبد الملك بن عمير كان قاضياً على الكوفة بعد الشعبي من كبار التابعين وثقاتهم رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى عن جابر عبدالله ومن أخباره قال‏:‏ كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه فرأني قد ارتعت لذلك فقال لي‏:‏ ما لك فقلت‏:‏ اعيذك بالله يا أمير المؤمنين كنت بهذا القصر مع عبيدالله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي أبي طالب بين يديه في هذا المكان ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي فرأيت رأس عبيدالله بن زياد بين يديه ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه ثم هذا رأس مصعب بين يديك قال‏:‏ فقام عبد الملك من موضعه وأمر بهدم ذلك الطاق‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني الفقيه القدوة كان خشن العيش يلبس الصوف ويخدم نفسه قال مالك‏:‏ لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الفضل والزهد منه‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ اصح الأسانيد الزهري عن سالم عن أبيه قلت ورجع غيرهما من المحدثين روايه مالك عن نافع عن ابن عمر وسيأتي أن رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر يسميها المحدثون سلسلة الذهب وقال بعض المؤرخين دخل سليمان بن عبد الملك الكعبة فرأى سالماً واقفاً فقال‏:‏ سلني حوائجك‏.‏

فقال‏:‏ و الله لا سألت في بيت الله غير الله‏.‏

وفيها توفي الفقيه الإمام آخر سادات الأعلام علماً وعملاً طاوس بن كيسان اليماني الجندي بفتح الجيم والنون الخولاني بمكة‏.‏

في ذي الحجة اخذ عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وطائفة وكان فقيهاً جليل القدر نبيل الذكاء قال عمرو بن دينار‏:‏ ما رأيت أحداً قط مثل طاوس ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاوس‏:‏ ان أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير فقال عمر‏:‏ كفى بها موعظة وتوفي حاجاً بمكة قبل يوم التروية بيوم وصلى عليه هشام بن عبد الملك في ولايته قلت كان هشاماً كان في ذلك الوقت بمكة قادماً للحج قال بعض العلماء‏:‏ لم يتهيأ آخراج جنازته لكثرة الناس حتى وجه أمير مكة بالحرس‏.‏

ولقد رأيت عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب واضعاً السرير على كاهله وقد سقطت قلنسوة كانت على رأسه ومزق رداؤه من خلفه‏.‏

قلت والمشهور عن طاوس رحمه الله تعالى أنه سأل عن مسألة فقال‏:‏ اخاف إن تكلمت وأخاف إن سكت وأخاف أن اخذ بين الكلام والسكوت‏.‏

وذكر بعضهم‏:‏ انه تولى قضاء صنعاء والجند وأخذ عنه عمرو بن دينار والزهري وابنه عبدالله بن طاوس وتولى ابنه المذكور القضاء بعده وكان فقيهاً جليلاً‏.‏

وفيها توفي أبو مجلز لاحق بن حميد البصري أحد علماء البصرة لقي كباراً من الصحابة كأبي موسى وابن عباس رضي الله عنهم قال هشام بن حسان‏:‏ كان قليل الكلام فإذا تكلم كان من الرجال‏.‏